كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إنهم لم يطلبوا نعمة ولا ثراء. بل لم يطلبوا ثوابًا ولا جزاء.. لم يطلبوا ثواب الدنيا ولا ثواب الآخرة. لقد كانوا أكثر أدبًا مع الله وهم يتوجهون إليه بينما هم يقاتلون في سبيله. فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غفران الذنوب وتثبيت الأقدام.. والنصر على الكفار. فحتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم إنما يطلبونه هزيمة للكفر وعقوبة للكفار.. أنه الأدب اللائق بالمؤمنين في حق الله الكريم.
وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئًا أعطاهم الله من عنده كل شيء. أعطاهم من عنده كل ما يتمناه طلاب الدنيا وزيادة. وأعطاهم كذلك كل ما يتمناه طلاب الآخرة ويرجونه: {فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة}.
وشهد لهم سبحانه بالإحسان. فقد أحسنوا الأدب وأحسنوا الجهاد وأعلن حبه لهم وهو أكبر من النعمة وأكبر من الثواب: {والله يحب المحسنين}.
وهكذا تنتهي هذه الفقرة في الاستعراض؛ وقد تضمنت تلك الحقائق الكبيرة في التصور الإسلامي. وقد أدت هذا الدور في تربية الجماعة المسلمة. وقد ادخرت هذا الرصيد للأمة المسلمة في كل جيل..
ثم يمضي السياق خطوة أخرى في استعراض أحداث المعركة؛ واتخاذها محورًا للتعقيبات يتوخى بها تصحيح التصور وتربية الضمائر والتحذير من مزالق الطريق والتنبيه إلى ما يحيط بالجماعة المسلمة من الكيد وما يبيته لها أعداؤها المتربصون:
ولقد كانت الهزيمة في أحد مجالًا لدسائس الكفار والمنافقين واليهود في المدينة. وكانت المدنية لم تخلص بعد للإسلام؛ بل لا يزال المسلمون فيها نبتة غريبة إلى حد كبير. نبتة غريبة أحاطتها بدر بسياج من الرهبة بما كان فيها من النصر الأبلج. فلما كانت الهزيمة في أحد تغير الموقف إلى حد كبير؛ وسنحت الفرصة لهؤلاء الأعداء المتربصين أن يظهروا أحقادهم وأن ينفثوا سمومهم؛ وأن يجدوا في جو الفجائع التي دخلت كل بيت من بيوت المسلمين- وبخاصة بيوت الشهداء ومن أصابتهم الجراح المثخنة- ما يساعد على ترويج الكيد والدس والبلبلة في الأفكار والصفوف.
وفي هذه الفقرة التالية من الاستعراض القرآني الموجه- وهي تمثل جسم المعركة وأضخم مشاهدها- نسمع الله سبحانه يدعو الذين آمنوا ليحذرهم من طاعة الذين كفروا؛ ونسمعه سبحانه يعدهم النصر على عدوهم وإلقاء الرعب في قلبه؛ ويذكرهم بالنصر الذي حققه لهم في أول المعركة حسب وعده لهم؛ والذي إنما أضاعوه هم بضعفهم ونزاعهم وخلافهم عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يستحضر مشهد المعركة بشطريه في صورة فائضة بالحيوية والحركة. ثم ما أعقب الهزيمة والفزع من إنزال الطمأنينة في قلوب المؤمنين منهم؛ بينما القلق والحيرة والحسرة تأكل قلوب المنافقين الذين ساء ظنهم بالله سبحانه.
ويكشف لهم كذلك عن جانب من حكمته الخفية وتدبيره اللطيف في سير الأحداث سيرتها تلك مع تقرير حقيقة قدر الله في آجال العباد. ويحذرهم في نهاية هذه الفقرة من ضلال التصورات التي يشيعها الكفار في قضية الموت والاستشهاد. ويردهم إلى حقيقة البعث التي ينتهي إليها الناس.. ماتوا أو قتلوا.. وإلى أنهم مرجوعون إلى الله على كل حال: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمًا بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزًّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم والله يحيي ويميت والله بما تعملون بصير ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون}.
وحين ننظر في هذه المجموعة من الآيات نظرة فاحصة نجدها قد ضمت جوانحها على حشد ضخم من المشاهد الفائضة بالحيوية ومن الحقائق الكبيرة الأصيلة في التصور الإسلامي وفي الحياة الإنسانية. وفي السنن الكونية.. نجدها تصور المعركة كلها بلمسات سريعة حية متحركة عميقة فلا تدع منها جانبًا إلا سجلته تسجيلًا يستجيش المشاعر والخواطر؛ وهي بدون شك أشد حيوية وأشد استحضارًا للمعركة بجوها وملابساتها ووقائعها وبكل الخلجات النفسية والحركات الشعورية المصاحبة لها.
من كل تصوير آخر ورد في روايات السيرة- على طولها وتشعبها- ثم نجدها تضم جوانحها على ذلك الحشد من الحقائق في صورتها الحية الفاعلة في النفوس البانية للتصور الصحيح.
وما من شك أن احتشاد هذه المشاهد كلها وهذه الحقائق كلها في هذا القدر من الألفاظ والعبارات- مع حيويتها وحركتها وإيحائها على هذا النحو- أمر غير معهود في التعبير البشري. يدرك ذلك من يدركون أسرار الأساليب وطاقات الأداء وبخاصة من يعالجون منهم التعبير ويعانون أسرار الأداء!
{يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}.
لقد انتهز الكفار والمنافقون واليهود في المدينة ما أصاب المسلمين من الهزيمة والقتل والقرح ليثبطوا عزائمهم ويخوفوهم عاقبة السير مع محمد ويصوروا لهم مخاوف القتال وعواقب الاشتباك مع مشركي قريش وحلفائهم.. وجو الهزيمة هو أصلح الأجواء لبلبلة القلوب وخلخلة الصفوف وإشاعة عدم الثقة في القيادة؛ والتشكيك في جدوى الإصرار على المعركة مع الأقوياء؛ وتزيين الانسحاب منها ومسالمة المنتصرين فيها! مع إثارة المواجع الشخصية والألام الفردية؛ وتحويلها كلها لهدم كيان الجماعة ثم لهدم كيان العقيدة ثم للاستسلام للأقوياء الغالبين!
ومن ثم يحذر الله الذين آمنوا أن يطيعوا الذين كفروا. فطاعة الذين كفروا عاقبتها الخسارة المؤكدة وليس فيها ربح ولا منفعة. فيها الانقلاب على الأعقاب إلى الكفر. فالمؤمن إما أن يمضي في طريقه يجاهد الكفر والكفار ويكافح الباطل والمبطلين وإما أن يرتد على عقبيه كافرًا- والعياذ بالله- ومحال أن يقف سلبيًا بين بين محافظًا على موقفه ومحتفظًا بدينه.. أنه قد يخيل إليه هذا.. يخيل إليه في أعقاب الهزيمة وتحت وطأة الجرح والقرح أنه مستطيع أن ينسحب من المعركة مع الأقوياء الغالبين وأن يسالمهم ويطيعهم وهو مع هذا محتفظ بدينه وعقيدته وإيمانه وكيانه! وهو وهم كبير. فالذي لا يتحرك إلى الأمام في هذا المجال لابد أن يرتد إلى الوراء والذي لا يكافح الكفر والشر والضلال والباطل والطغيأن لابد أن يتخاذل ويتقهقر ويرتد على عقبيه إلى الكفر والشر والضلال والباطل والطغيان! والذي لا تعصمه عقيدته ولا يعصمه إيمانه من طاعة الكافرين والاستماع إليهم والثقة بهم يتنازل- في الحقيقة- عن عقيدته وإيمانه منذ اللحظة الأولى.. إنها الهزيمة الروحية أن يركن صاحب العقيدة إلى أعداء عقيدته وأن يستمع إلى وسوستهم وأن يطيع توجيهاتهم.. الهزيمة بادئ ذي بدء. فلا عاصم له من الهزيمة في النهاية والارتداد على عقبيه إلى الكفر ولو لم يحس في خطواته الأولى أنه في طريقه إلى هذا المصير البائس.. إن المؤمن يجد في عقيدته وفي قيادته غناء عن مشورة أعداء دينه وأعداء قيادته.
فإذا استمع إلى هؤلاء مرة فقد سار في طريق الارتداد على الأعقاب.. حقيقة فطرية وحقيقة واقعية ينبه الله المؤمنين لها ويحذرهم إياها وهو يناديهم باسم الإيمان: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا يردوكم على أعقابكم فتنقلبوا خاسرين}.
وأية خسارة بعد خسارة الارتداد على الأعقاب من الإيمان إلى الكفر؟ وأي ربح يتحقق بعد خسارة الإيمان؟
وإذا كان مبعث الميل إلى طاعة الذين كفروا هو رجاء الحماية والنصرة عندهم فهو وهم يضرب السياق صفحا عنه ليذكرهم بحقيقة النصرة والحماية: {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}.
فهذه هي الجهة التي يطلب المؤمنون عندها الولاية ويطلبون عندها النصرة. ومن كان الله مولاه فما حاجته بولاية أحد من خلقه؟ ومن كان الله ناصره فما حاجته بنصرة أحد من العبيد؟
ثم يمضي السياق يثبت قلوب المسلمين ويبشرهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم بسبب إشراكهم بالله ما لم ينزل به سلطانًا ولم يجعل له قوة وقدرة. وذلك فوق عذاب الآخرة المهيأ للظالمين: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}.
والوعد من الله الجليل القادر القاهر بإلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كفيل بنهاية المعركة وضمان لهزيمة أعدائه ونصر أوليائه..
وهو وعد قائم في كل معركة يلتقي فيها الكفر بالإيمان. فما يلقى الذين كفروا الذين آمنوا حتى يخافوهم ويتحرك الرعب الملقى من الله في قلوبهم. ولكن المهم أن توجد حقيقة الإيمان في قلوب المؤمنين. حقيقة الشعور بولاية الله وحده والثقة المطلقة بهذه الولاية والتجرد من كل شائبة من شك في أن جند الله هم الغالبون وأن الله غالب على أمره وأن الذين كفروا غير معجزين في الأرض ولا سابقين لله سبحانه! والتعامل مع وعد الله هذا مهما تكن ظواهر الأمور تخالفه فوعد الله أصدق مما تراه عيون البشر وتقدره عقولهم!
إنه الرعب لأن قلوبهم خاوية من السند الصحيح. لأنهم لا يستندون إلى قوة ولا إلى ذي قوة. إنهم أشركوا بالله آلهة لا سلطان لها لأن الله لم يمنحها سلطانًا.
والتعبير: {ما لم ينزل به سلطانًا} ذو معنى عميق وهو يصادفنا في القرآن كثيرًا. مرة توصف به الآلهة المدعاة، ومرة توصف به العقائد الزائفة.. وهو يشير إلى حقيقة أساسية عميقة:
إن أية فكرة أو عقيدة أو شخصية أو منظمة.. إنما تحيا وتعمل وتؤثر بمقدار ما تحمل من قوة كامنة وسلطان قاهر. هذه القوة تتوقف على مقدار ما فيها من الحق أي بمقدار ما فيها من توافق مع القاعدة التي أقام الله عليها الكون ومع سنن الله التي تعمل في هذا الكون. وعندئذ يمنحها الله القوة والسلطان الحقيقيين الفاعلين المؤثرين في هذا الوجود. وإلا فهي زائفة باطلة ضعيفة واهية مهما بدا فيها من قوة والتماع وانتفاش!
والمشركون يشركون مع الله آلهة أخرى- في صور شتى- ويقوم الشرك ابتداء على إعطاء غير الله سبحانه شيئًا ما من خصائص الألوهية ومظاهرها وفي مقدمة هذه الخصائص حق التشريع للعباد في شؤون حياتهم كلها؛ وحق وضع القيم التي يتحاكم إليها العباد في سلوكهم وفي مجتمعاتهم؛ وحق الاستعلاء على العباد وإلزامهم بالطاعة لتلك التشريعات والاعتبار لهذه القيم.
ثم تأتي مسألة العبادة الشعائرية ضمن إعطاء هذه الخصائص لغير الله سبحانه وواحدة منها!
فماذا تحمل هذه الآلهة من الحق الذي أقام الله عليه الكون؟ إن الله الواحد خلق هذا الكون لينتسب إلى خالقه الواحد؛ وخلق هذه الخلائق لتقر له بالعبودية وحده بلا شريك؛ ولتتلقى منه الشريعة والقيم بلا منازع؛ ولتعبده وحده حق عبادته بلا أنداد.. فكل ما يخرج على قاعدة التوحيد في معناها الشامل فهو زائف باطل مناقض للحق الكامن في بنية الكون. ومن ثم فهو واهٍ هزيل لا يحمل قوة ولا سلطانًا ولا يملك أن يؤثر في مجرى الحياة؛ بل لا يملك عناصر الحياة ولا حق الحياة!
وما دام أولئك المشركون يشركون بالله ما لم ينزل به سلطانًا؛ من الآلهة والعقائد والتصورات فهم يرتكنون إلى ضعف وخواء وهم أبدًا خوارون ضعفاء؛ وهم أبدًا في رعب حيثما التقوا بالمؤمنين المرتكنين إلى الحق ذي السلطان.
وإننا لنجد مصداق هذا الوعد كلما التقى الحق والباطل.. وكم من مرة وقف الباطل مدججًا بالسلاح أمام الحق الأعزل. ومع ذلك كان الباطل يحتشد احتشاد المرعوب ويرتجف من كل حركة وكل صوت- وهو في حشده المسلح المحشود! فأما إذا أقدم الحق وهاجم فهو الذعر والفزع والشتات والاضطراب في صفوف الباطل؛ ولو كانت له الحشود وكان للحق القلة تصديقًا لوعد الله الصادق: {سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا}.
ذلك في الدنيا. فأما في الآخرة.. فهناك المصير المحزن البائس الذي يليق بالظالمين.
{ومأواهم النار وبئس مثوى الظالمين}.
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها. فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها. ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار وتركوا وراءهم الغنائم وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة.. ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم؛ وتنازعوا فيما بينهم وخالفوا عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيهم وقائدهم.. وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها في حيوية عجيبة: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم فأثابكم غمًا بغم لكي لا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسًا يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم}.
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدًا كاملًا لمسرح المعركة ولتداول النصر والهزيمة. مشهدًا لا يترك حركة في الميدان ولا خاطرة في النفوس ولا سمة في الوجوه ولا خالجة في الضمائر إلا ويثبتها.. وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ويحمل في كل حركة صورًا جديدة نابضة. وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل والهروب في دهش وذعر ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم للفارين المرتدين عن المعركة المصعدين للهرب. يصحب ذلك كله حركة النفوس وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع.. ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ومنهج القرآن التربوي العجيب: {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه}.
وكان ذلك في مطالع المعركة حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين أي يخمدون حسهم أو يستأصلون شأفتهم. قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لهم: «لكم النصر ما صبرتم» فصدقهم الله وعده على لسان نبيه.
{حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}.